الباشـــا عاريا
فصل من كتاب " تنوير
الأنام في ذكر ما جرى يوم دخلت السلطة إلى الحمام "
يبدو أن الحقائق الكبرى لايمكن اكتشافها إلا في الحمامات العامة ، ألا تذكرون أن
أرخميدس اكتشف نظرية الأواني المستطرقة وهو في الحمام ؟ صاح يومها باليونانية :
_ أوريكا ..
سأله أعرابي كان يستحم معه عن معنى الكلمة، فأجابه بلسان عربي فصيح :
_ وجدتهـــا …
في حمام الملك الظاهر حدثت المعجزة " وجدتها أنا أيضاً " وعرفت أن جميع القادة
التاريخيين والوزراء والعقداء والزعماء والمدراء هم بشر مثلنا تماماً ، لكنهم يخفون
هذه الحقيقة وراء الأوسمة والنياشين وأزياء بيير كاردان وكريستيان ديور , لو أن
المرشحين للنيابة يعقدون اجتماعاتهم في الحمامات العامة، ويلقون خطاباتهم وهم
يرتدون ما يشبه ثياب الإحرام، لما حصل أحدهم على صوت واحد !
ولو أن الجنرالات وماريشالات عاصفة الصحراء والنجم الساطع خاضوا المعارك وهم يرتدون
" فوط " الحمام لتحقق السلام في العالم فوراً !
تخيلوا معي لو أن رؤساء تحرير الصحف النفطية وصحف الحزب الواحد التقدمي الرائد،
ظهروا أمام القراء بلباس الاستحمام ، هل كانوا يجرأون على الكذب وهم شبه عراة ؟
أكاد أتحول إلى أشد أنصار مذهب العراة ، فجميع أشكال القهر والاستلاب والسلب والنهب،
إنما هي نتاج مصممي الأزياء وخياطي البزات العسكرية وصانعي الأوسمة !
الفضل في هذا الكشف الثوري يعود لأحد أثرياء التقدم والاشتراكية ، وأثرياء التقدم
والاشتراكية أثرياء ثوريون في كل شيء ، ثوريون في تجديد أساليب كسب المال وفي
أساليب إنفاقه أيضاً ، فلا غرابة إذن حين نراهم ينظرون شزراً إلى جميع الاقطاعيين
والبورجوازيين البائدين الذين ينتظرون المواسم أو يعملون ليل نهار في الانتاج ، هذه
الحماقة الاقتصادية تخلى عنها أثرياء الكومسيون الذين يقرأون المستجدات جيداً
ويفهمون التحولات الاجتماعية العميقة كما فهمها قبلهم الرفيق موريس صليبي ! أحد
هؤلاء الأثرياء إشترى حمام الملك الظاهر بيبرس البندقداري جانب المكتبة الظاهرية ،
وأعاد تجديده بما يتناسب مع الظروف التاريخية التي تمر بها خير أمة أخرجت للناس ،
ثم إنه دعا جميع المسؤولين وأبنائهم وأصهارهم وأقاربهم حتى الدرجة الثانية عشرة،
إلى حفلة غداء في الحمام انتهت بهم إلى خلع ملابسهم والدخول للاستحمام ، كان
الدكتور غسان الرفاعي بين المدعوين وأنا أنقل الحديث عن مفاتن الحضور على ذمته ،
قال غفر الله له وأسكنه فسيح جنانه بعد أن يختاره إلى جواره :
لاتتحقق شعارات الوحدة والحرية والمساواة إلا في الحمام العربي الذي يسمونه هنا في
بلاد الفرنجة خطأ بالحمام التركي ، هذا الحمام عربي الوجه واليد واللسان والقفا
أيضاً . في تلك اللحظات التاريخية التي خلعت فيها القيادات الأمنية والثقافية
والاقتصادية ملابسها ودخلت إلى الاستحمام دخول صقر قريش إلى الأندلس ، أدركتُ حكمة
العلي القدير حين أمر الناس أن لايدخلوا المسجد الحرام للحج إلا في ثياب الاحرام ،
رأيت يومها كبار ضباط الشرطة وكرش كل منهم يتقدمه بضعة أمتار محمولا ً على ساقين
لاتقويان على السير قدماً إلى الأمام لا في مسيرة الحرب ولا في مسيرة السلام، رغم
أتها أتقنت الرفس واللبط ! شاهدت ما أهوى على مثله العمى ، فهمت لماذا يدمن هؤلاء
التنكيل بالناس منتحلين صفة ذكور النحل، تعويضاً عن القهر الذي يعانون منه ممن هو
أعلى رتبة في السلم السلطوي، وصولا ً إلى شيخ المشايخ ومختار المخاتير !
قلت للدكتور الرفاعي وأنا أناشده أن يقول الحقيقة :
_ وهل كان كبار الصحفيين والكتاب وشعراء المخابرات العامة والأمن القومي والأمن
الجنائي حاضرين في هذا الموسم التاريخي ؟ ( ملاحظة : كل شيء في مضارب قحطان وعدنان
تاريخي )
أجاب , والدمع من عينيه ينساب :
_ لو رأيتهم لوليت منهم رعبًا وهلعًا وخوفاً ، إن مشهدهم يذكر المؤمن بعذاب القبر
ومنكر ونكير !
قال أبو يسار الدمشقي القنواتي بعد أن حمد الله وأثنى عليه :
_ لاينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان ، فمن أجل تحقيق النصر على جميع الطغاة
والحكام البغاة، لابد من تعميم الحمامات العامة ونقل الوزارات والمخافر والكركونات
ومكاتب الصحف والمجلات ومكاتب الاستيراد والتصدير أيضاً إلى أقرب حمام عربي ، وفي
ذلك فليتنافس المتنافسون ! يومها تنهار أنظمة القمع بسرعة البرق أو حتى بسرعة
انهيار البورصات الآسيوية ونمورها المصنوعة من ورق مقوى كتب عليه : كل حال تزول وكل
حاكم معزول ، ذلك أن " الحال " في لغتنا العربية الشريفة مؤنثة كخضراء الدمن ،
الفتاة الحسناء في منبت السوء ، وإلى أن تحدث المعجزة ويأتي " غودو " الذي انتظرناه
خمسة عشر قرناً ، ليس لنا إلا أن نردد مع زياد الرحباني : ماشي الحال .. لكن أي حال
هذه ناشدتكم بالله ؟