دائرة فلتانة سي
سُدّت سبل الرزق في
وجوه " الدالاتية " عندما كان أسعد باشا العظم والياً على دمشق في الأربعينيات من
القرن الثامن عشر أيام الدولة العثمانية ، وكما ذكر مؤلف كتاب ( حوادث دمشق اليومية
) الحاج أحمد البديري الحلاق، فان الوالي أمر منادياً أن ينادي بأن لا يبقى أحد
منهم في الشام، بعد ثلاثة أيام ، ومن بقي منهم يصلب، وماله ينهب !
والدالاتــية أو الدلاة مشتقة من كلمة " دلى " التركيــة بمعنى مجنون أو متهوّر،
وهم طائفة من الجند، وصفهم المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي بقوله :
" و هذه الطائفة الني يقال لها الدالاتية، ينسبون أنفسهم إلى طريقة سيدنا عمر بن
الخطاب ، و أكثرهم من نواحي الشام وجبال الدروز والمتاولة وتلك النواحي ، يركبون
الأكاديش وعلى رؤوسهم الطراطير السود مصنوعة من جلود الغنم الصغار ، وطول الطرطور
نحو ذراع ، وهؤلاء مشهورون بالشجاعة و الاقدام في الحروب ، ويوجد فيهم من هو على
طريقة حميدة و منهم دون ذلك "
كانت هذه الفرقة من الجند متّصفة بالتهوّر ، يد الواحد منهم دائماً على الزناد ،
الحوار معهم كالحوار مع أي حاكم عربي في هذه الأيام ، يجري وفق الأساليب
الديموقراطية والأصول ، شعارهم " مَن حَرَك بَرَك ، ومن فتح فاه ، ثكله أبواه "!
* * *
أحد هؤلاء الدالاتية، وجد نفسه في وضع لا يُحسد عليه، بعد أن نادى منادي الباشا
بالغاء هذه الفرقة و إجلائها عن الشام وأمر جميع أفرادها بكرّ بَرماتهم ، أي
التخلّي عن زِيّهم الخاص الذي عرفوا به ، والذي يميزهم عن باقي عباد الله . فكّر
الرجل في مورد للرزق ، فلم يجد خيراً من افتتاح دائرة خاصة على باب مقبرة " الباب
الصغير " في دمشق، لتحصيل ضريبة على كل من يدفن فيها . بنى غرفة في مدخل المقبرة ،
وضع فيها منضدة، وصنع خاتماً رسمياً كتب عليه ( دائرة فلتانة سي ) وراح يتقاضى على
كل ميت مبلغاً من المال يتناسب مع الوضع الاجتماعي للمرحوم وحيثياته وعدد المشيعين
، ويعطي لأهل المتوفي إيصالا ً رسمياً مختوماً باسم دائرته الفلتانة ، فالدولة كلها
فلتانة ، فلماذا يبقى الأموات وحدهم خارجين عن القاعدة ؟
إستمرّ الرجل في عمله بضع سنوات والناس تدفع الضريبة التي يفرضها ، وجاءت أوبئة
حصدت الألوف ، وأصبح صاحبنا من أصحاب الثروة ، له على كل ميت دينار ، سواء مات في
الليل أو في النهار!
* * *
لم يكتشف الباشا هذه الدائرة الخارجة عن نطاق سلطاته، إلا عندما توفي أحد أقاربه من
آل العظم ، خرج الباشا يومها في الجنازة ، و عندما دخل الموكب المقبرة أوقفه سيادة
مدير دائرة فلتانة سي و طلب الدفع ، دفع الباشا متعجباً ، وعندما عاد إلى السرايا
استدعى محاسب ولاية الشام فتحي أفندي الدفتردار، وسأله عن هذه الدائرة و متى أسست و
من يقبض الوارادات ، وبعد التحقيق انكشفت القصة الطريفة ، ضحك أسعد باشا حتى قلب
على قفاه، و طلب إحضار صاحب الدائرة في الحال ، قال له :
عفارم ... إبق في محلك ، لكن الواردات مناصفة !
* * *
أكثر من قرنين من الزمان ، ونحن نحافظ على التراث والتقاليد ، أكثر من عشرين دولة
عربية أنشئت على أنقاض الامبراطورية العثمانية ، وكلها دول فلتانة سي ، عُمّمت
التجربة الرائدة التي بدأها ذلك الدالاتي ، فالوطن كله من المحيط إلى الخليج، يُحكم
بهذه العقلية .
سلوا أي عربي يعيش في فاس أو في أبو ظبي ، في المنامة أو في القاهرة ، في
الجماهيرية العربية الليبية الاشتراكية العظمى أو في امارة رأس الخيمة ، و سيجيبكم
أنه عاين خلال عمره القصير من عدد لا يحصى من الفلتان السياسي والاقتصادي و الثقافي
. بدءاً من دوائر الأمن التي وضع أساسها رواد الديموقراطية العربية النابعة من
أرضنا المعطاء، أوفقير والسراج و الكيلاني و صلاح نصر وعلي دوبا، وآخرون لا مجال
لذكرهم الآن ، و انتهاء بحرب الخليج التي لا نعرف هل هدفها تحرير العراق من
ديكتاتورية صدام ، أم تدمير العراق والإستيلاء على نفطه وتاريخه؟
* * *
ثمانون عاماً و جرحنا من سايكس بيكو يتقيّح و يتعفّن ، والغرغرينا تسري في أوصال
الوطن ، والشعوب مُنيخةٌ رازحة تحت وطأة القمع و الفساد، تنتظر الفرج من عند الله .
أكثر من نصف قرن على اغتصاب فلسطين و تحويلها إلى وطن قومي لليهود ، وأبناء شعبنا
موزعون في الخيام أو تحت وطأة الاحتلال الاسرائيلي ، وقرارات مجلس الأمن تستعملها
إسرائيل بدل الكلينكس ، والعالم كلّه يتجاهل الجرح الناغر، و الحكام العرب يعيثون
فساداً وإفساداً ، يذبحون الفلسطينيين ، و ملابسهم العسكرية منها والمدنية، مع
العباءات المقصّبة، تصنع في لندن وباريس وواشنطن . النفط عَهّر القيم ، وأهل اليسار
تحوّلوا إلى منظرين لأهل اليمين ، فلتت الأمور في جميع مناحي الحياة ، إختلط الحابل
بالنابل . أليس ذلك هو الارث التاريخي اللعين لدائرة فلتانة سي ؟
* * *
مشكلة الشعوب العربية أنها لم تدفع الثمن لحريتها و كرامتها ، كانت دائماً تنتظر من
يحارب نيابة عنها ، كان الملوم في كل هزامنا أمام اسرائيل هو الاتحاد السوفياتي،
لأنه لم يرسل جنوده لتحرير فلسطين !
أوروبا دفعت الثمن غالياً من دماء الملايين حتى وصلت إلى ما هي عليه ، ونحن اليوم ،
بدأنا ولأول مرّة في تاريخنا الحديث، بدفع الثمن ، وجراح الشهداء لن تذهب هدراً ،
إانها ستظل مفتوحة تنادي بالثأر و غسل العار الذي يجللنا منذ أنشئت إسرائيل على
ترابنا ، وهذه الدماء ستجبر العالم " المتحضر " على أن يأخذنا بنظرة جدية .
إنه الطوفان الذي سيغسل جميع الأدران العالقة بنا منذ عصور ، وبعد الطوفان لن يبقى
على الأرض من الكافرين ديارا ، فالمتشائمون الآن هم الذين لا يرون إلى أبعد من
أنوفهم ، أو الذين لا يفرقون بين مصالح الوطن و مصالح جيوبهم ، أما نحن، فاننا على
يقين أن المعركة الحالية ، مهما كانت نتيجتها ، هي مشرط الجراح الذي سيزيل الورم
الخبيث ، هو الذي سيقلع أنظمة الفساد والقمع و الخيانة من الجذور، و إن غداً لناظره
قريب